مداد : تمويل الحكومة عبر سندات وأذونات الخزينة يمكن أن ينجح عبر هذه المتطلبات..
.
بين مركز دمشق للابحاث والدراسات "مداد" في دراسة نشرها حديثاً، أعدها الخبير بالشؤون المالية والنقدية الدكتور كنان ياغي بعنوان «الآثار الاقتصادية لإصدار أذون وسندات الخزينة»؛ أنه لا بد من البدء بالتفكير بالأوراق المالية الحكومية كمصدر تمويلي داخلي مهم، والعمل على وضع ودراسة المتطلبات اللازمة لتفعيل مثل هذا المصدر، مشيرةً إلى أن وضع الأسس الصحيحة لبناء برنامج تمويلي متكامل يبين الأهداف والمدى الزمني المطلوب للتنفيذ، والمصادر المتاحة والآثار المترتبة على اختيار مصدر بعينه يبقى من مهمة الحكومة بالدرجة الأولى.
نقطة انطلاق
استهلت الدراسة بالإشارة إلى أن الأزمة أثرت بشكل كبير في الموازنة العامة للدولة، فقد حدث تراجع كبير في الإيرادات العامة للدولة (النفطية وغير النفطية) وارتفاع في الإنفاق العام. إذ تراجعت نسبة تغطية الإيرادات العامة للنفقات في الموازنة العامة للدولة إلى 57 بالمئة خلال العام 2015، بعدما كانت تصل إلى (90بالمئة) وسطياً خلال الفترة الواقعة بين 2005-2010. هذا الأمر أدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع عجز الموازنة العامة، إذ ارتفع عجز الموازنة من 186 مليار ليرة سورية عام 2011 إلى 574 مليار ليرة سورية في عام 2015.
هذا الوضع المتردي في المالية العامة للدولة انعكس بشكل زيادة كبيرة في الديون الممنوحة من مصرف سورية المركزي للحكومة المركزية (التمويل بالعجز)، عبر الاقتراض المباشر، ذلك لسداد التزامات الحكومة الأساسية، وبالتالي ارتفع حجم الدين العام الداخلي في نهاية العام 2016 ليصل إلى أكثر من 4000 مليار ليرة سورية بعدما كان بحدود 320 مليار ليرة قبل الأزمة.
ولقد كان العامل الرئيس المولد للنمو في العرض النقدي طوال مدّة الأزمة هو الديون الممنوحة للحكومة المركزية والتي بلغت مساهمتها النسبية بحدود 15بالمئة وسطياً من نسبة نمو العرض النقدي.
حول الأوراق الحكومية
بيّنت الدراسة أن إنشاء سوق محلي للأوراق المالية الحكومية في سورية يُعَدُّ إحدى الخطوات الأساسية والأولية لتطوير القطاع المالي، وقد أدركت الحكومة حاجتها لتطوير إدارة فعالة للدَّين العام، ذلك عن طريق إصدار أوراق مالية حكومية بإصدارها للمرسوم التشريعي رقم 61 لعام 2007، وذلك بعد الارتفاع المتواصل لنسبة الدين الداخلي إلى الناتج المحلي الإجمالي. ذلك نتيجة لتمويل العجز من خلال المصرف المركزي والمصارف العامة، وذلك عن طريق سندات غير قابلة للتداول ومن دون تغطية، الأمر الذي إثر سلباً في القطاع المالي في سورية وعلى معدلات التضخم. كما أدركت الحكومة أن وجود سوق مالي متطور، سيسهم بشكلٍ رئيسٍ في تحسين المُناخ الاقتصاديّ، وتحقيق معدلات نمو حقيقية.
ويتيح وجودُ سوق لسندات الخزينة مصدراً رئيساً لتمويل الاحتياجات المالية للدولة قائماً على أسس حقيقية غير تضخمية، وبالتالي يسمح بالحصول على مصدر تمويلي بديل من التمويل المقدم من المصرف المركزي ذي الآثار السلبية من حيث ارتباطه بالتوسع النقدي، ما يقلل مخاطر ظهور الضغوط التضخمية والضغوط على سعر الصرف، ويزيد من كفاءة إدارة الدين العام، فالحكومة تصبح أكثر إدراكاً لجانب الكلفة حينما تظهر القيمة الفعلية لإجمالي الفوائد الواجب دفعها من أجل تمويل الدين بكل وضوح، بمعنى آخر الوقوف على ضرورة دراسة الجدوى الاقتصادية للمشاريع التي ستمول، عن طريق الأوراق المالية الحكومية.
كما يعزز وجود هذه السوق وضوح المحاسبة الحكومية، إذ إن القيمة الواجبة للدين العام ستصبح رقماً جلياً وموثوقاً يتم نشره في مواعيد حدوثه، ويساعد على الفصل بين المتطلبات التمويلية للحكومة، والجانب النقدي للاقتصاد، بما يسهم في تقوية استقلالية المصرف المركزي ومساعدته على تطوير سياسته النقدية بصورة تركز أساساً على إدارة السيولة المحلية، والحفاظ على استقرار المستوى العام لأسعار.
في العمق: ست مشكلات يجب حلّها
في ظل النقص الكبير في الإيرادات العامة للدولة، والحاجات المتزايدة لمصادر التمويل لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. يبقى السؤال الأهم هنا هل تُعَدّ سندات الخزينة من هذه المصادر التي يمكن الاعتماد عليها لسد جزء من النقص الحاصل في مصادر التمويل المطلوبة؟
بعد تغير الظروف الاقتصادية والمالية للبلاد بشكل جذري بعد الحرب، وبالتالي ربما ما كان صالحاً في وقت ما، لن يكون صالحاً في وقت آخر، لذلك لا بد من الحكم على إمكانية استخدام هذا المصدر، عن طريق دراسة شروط استخدامه ونتائج تطبيقه، وأولاً؛ لابد من العمل قبل إصدار سندات الخزينة على معالجة التشوه الحاصل في السوق المالي عموماً، وفي هيكل أسعار الفائدة خصوصاً. فالسؤال المطروح هنا: ما معدل الفائدة الذي سيتم طرح سندات الخزينة به في ظل معدل تضخم يزيد على 25 بالمئة؟ فيجب منطقيّاً أن تكون معدلات الفائدة على سندات الخزينة أكبر من معدل التضخم ليحقق المستثمر عائداً حقيقيّاً على أمواله، وبالتالي فإننا نتكلم على معدل فائدة بحدود الـ25 بالمئة وهذا غير منطقي وغير قابل للتطبيق حالياً.
ثانياً، هل يمكن إصدار سندات خزينة في ظل السياسة المالية المتبعة حالياً في سورية، وذلك في ظل التشوه الكبير في الموازنة العامة للدولة؟ وإذا كان الهدف من إصدار سندات الخزينة هو تمويل بعض المشاريع العامة ذات الجدوى الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي، أو إنجاز وتطوير بعض مشاريع البنية التحتية التي تخلق وتوفر المناخ الملائم للاستثمارات في البلاد، وتعود بالنفع العام وتكون مصدراً من المصادر التي تزيد من إيرادات الموازنة العامة عن طريق الرسوم والضرائب المطبقة عليها فهو أمر جيد ومقبول. ولكن التخوف في الحقيقة هو من صعوبة حصر استخدام الموارد المالية المتأتية من إصدار سندات الخزينة لتمويل مشاريع استثمارية معينة، إذ إن هذا الأمر يتعارض مع مبدأ عدم تخصيص الإيرادات الذي يُعَدّ أحد أهم المبادئ الحديثة للموازنة العامة، ويقصد به ألا يخصص إيراد معين لتغطية نفقة معينة. ذلك أن جميع الإيرادات تجمع وترسل إلى الخزينة العامة للدولة، ثم يعاد توزيعها بين الوزارات والدوائر والمؤسسات. ويسهم هذا المبدأ في توزيع الإيرادات العامة على الحاجات والسلع العامة، وذلك حسب الأولويات في الإنفاق، ويُعَدُّ أحد أهم مبررات هذا المبدأ أن التخصيص مصدر للتبذير، إذ تسعى المصالح الحكومية التي يخصص لها إيراد معين إلى إنفاق هذا المصدر بكامله إذا كان المبلغ المخصص أكبر من النفقة المتوقعة وإن لم تكن حاجتها الحقيقية تستوجب ذلك.
وعليه، لابد من العمل على حل هذه المشكلة في البداية وقبل إصدار سندات خزينة خوفاً من اعتماد وزارة المالية على هذا المصدر السهل في ظل الحاجات المالية المتزايدة والكبيرة، والعمل على تمويل نفقاتها الجارية القصيرة الأجل من مصادر تمويلية طويلة الأجل أو الوقوع في مشكلة عدم تطابق تواريخ الاستحقاق، الأمر الذي يؤدي مع الوقت إلى إحداث خلل هيكلي في الموازنة العامة وتصدير وتفاقم مشكلة الدين العام مع مرور الوقت.
المشكلة الثالثة التي يجب العمل على حلها أو الوصول إلى قرار بشأنها؛ ما عملة التمويل المطلوبة؟ أي هل نحن بحاجة إلى تمويل بالليرات السورية أم بالعملات الأجنبية؟ وللجواب عن هذا السؤال لا بد من النظر إلى الميزانية المجمّعة للمصارف العاملة في سورية، ذلك بهدف معرفة مدى تناسب حجم الودائع الموجودة لدى الجهاز المصرفي وحجم التمويل المطلوب لإعادة الإعمار، ولمعرفة مدى تناسب حجم الودائع مع الكتلة النقدية الموجودة في السوق، وبالتالي يجب الأخذ بالحسبان إمكانية تنامي حجم الودائع المصرفية بالتوازي مع تقديم بعض الإصلاحات الهيكلية للسوق المالي، وخاصة ضرورة تصحيح هيكل أسعار الفائدة وضبط معدلات التضخم واستقرار سعر صرف الليرة السورية. ذلك أن العمل على حلّها إضافة إلى تحسن الوضع الأمني في البلاد، سوف يؤديان إلى تزايد حجم الودائع بالليرات السورية بشكل دراماتيكي في المصارف السورية هذا من جهة.
ومن جهة أخرى دراسة طبيعة المواد المطلوب تأمينها لعملية إعادة الإعمار التي أغلبها سيكون عبارة عن مستوردات من الخارج. لذلك يُرجّح أن حاجة البلاد التمويلية ستكون عبارة عن تمويل بالقطع الأجنبي. وبالتالي لن تلعب الأوراق المالية الحكومية دوراً كبيراً في هذا المجال.
رابعاً، لا بد للمصرف المركزي من العمل على معالجة معدلات التضخم المرتفعة أولاً، ذلك عن طريق ضبط معدل نمو الكتلة النقدية أولاً، ثم العمل على سحب السيولة النقدية الفائضة بالسوق، بوساطة الأدوات النقدية المباشرة وغير المباشرة (التي يجب العمل على تفعيلها). ذلك للوصول إلى هيكل سليم لأسعار الفائدة يخدم كلّاً من التمويل والاستثمار في البلاد.
خامساً، يجب العمل على إيجاد فرص استثمارية حقيقية كيلا يكون الاستثمار بالسندات الحكومية الفرصة الاستثمارية الوحيدة المتاحة أمام وحدات الفائض في الاقتصاد، وبالتالي يحدث سوء توزيع للموارد المالية في البلاد. وأيضاً الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي لتمويل العجز في الموازنة العامة لما له من تأثيرات سلبية في معدلات التضخم وفي مزاحمة القطاع الخاص على السيولة المتاحة وبالتالي رفع أسعار الفائدة، وقد يمتد الأمر إلى الإضرار بمعدلات النمو، وزيادة تكلفة خدمة الدين العام، وبالتالي زيادة العجز في الموازنة العامة للدولة.
سادساً، البديل مبدئياً هو إصدار سندات طويلة الأجل (أكثر من 5 سنوات) خاصة بإعادة الإعمار مثل (سندات الإسكان- سندات التنمية، إلخ) تتمتع بمزايا خاصة كالإعفاء من الضرائب والرسوم.