مشروع الاصلاح الإداري..؟!
.
خلص مقال حول الإصلاح الإداري نشره مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» إلى أن الإصلاح إذا ما جاء مجتزأ تحت أي عنوان (إداري، اقتصادي…) سوف يبقى مجرد شعار أو غطاء لسياسة الهروب أو القفز إلى الأمام، والتي سيتم من خلالها نقل الأزمات وترحيلها إلى الأمام لا حلها، ما يعني استمرار التناقضات القابلة للانفجار، وبقاء فتيلها جاهزاً لالتقاط شرارة النار متى توافرت الظروف.
ورأى كاتب المقال الباحث الاقتصادي الدكتور مدين علي (أستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق) أن مقاربة علمية وعملية للإصلاح الإداري في سورية، كمقدمة لإصلاح اقتصادي شامل، يمكن الرهان عليه لمرحلة ما بعد الحرب (مرحلة إعادة الإعمار) لا يمكن أن تتحقق، إلا إذا جاءت في إطار منظور إستراتيجي كليٍّ متكاملٍ يؤسس لمشروع سياسي، يؤمن شروط الاستقرار والسلام والنمو المُستدام، يمكن أن ينطلق من المحاور الأساسية الآتية:
المحور الأول: إصلاح السياسات العامة للدولة التي يعتريها في جانبٍ كبيرٍ منها الضعف والقصور وغياب الرؤية، وهي بمعظمها (أي تلك السياسات)، لا تتعدى حدود أنها سياسة إدارة أزمات بأدوات ربما قاصرة وعفى عليها الزمن، لا أكثر ولا أقل.
المحور الثاني: إصلاح حامل مشروع الإصلاح، وهذا يقتضي بداية، إناطة قيادة الإشراف على برامج الإصلاح بكوادر نوعية، ونخب مميزة (رجال دولة حقيقيون) يمتلكون الثقافة، ولديهم الرؤى، والحس السليم، يمتازون بالفهم العميق لطبيعة المخاطر الإستراتيجية التي تهدد حاضر سورية ومستقبلها على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.
المحور الثالث: مكافحة الفساد، وهذا يتطلب حملة نوعية تستهدف الضرب بقوة على أيدي الفاسدين، وتفكيك مراكز القوى المساندة لهم التي تؤمن لهم سبل الدعم والمؤازرة.
المحور الرابع: الانفتاح على الداخل والخارج، كمدخلٍ أساسٍ لتقوية منظومة التشاركية، كإطار أو كبنية، يمكن أن تساعد في توظيف الطاقات واستيعاب القدرات، وتسهم في تأصيل قواعد العدالة، وتوطيد دعائم الإنصاف، وتعزيز شروط ومتطلبات مبدأ تكافؤ الفرص، والقضاء على مظاهر الإقصاء والاستبعاد والتهميش.
مطلوب رجال دولة
جواباً عن سؤال حول نجاعة إدارة تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري والرقابة عليه من وزارة التنمية الإدارية بصورة رئيسة، أكد علي أن الموضوع لا يمكن أن ينحصر بجهة واحدة، وهو ليس حكراً على جهة واحدة، ولا يحق لجهة أن تدعي قدرتها على تنفيذ برنامج الإصلاح الإداري، لأن مهمته كمشروع بالمعنى الواسع إعادة بناء وطن من جديد على خلفية حرب شرسة استهدفته لأكثر من سبع سنوات، وبالتالي هذا يحتاج إلى تضافر جهود كبيرة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ويجب أن يشارك فيه الجميع، على المستوى الرسمي، وغير الرسمي.
ونّوه بأنه عندما نتحدث عن مشروع للإصلاح الإداري يجب أن تكون لدينا نظرة شمولية متكاملة، حيث لا تختزل الرؤية والنتائج من خلال تطبيق بعض المؤشرات الفنية، على أهميتها، إذ إنها غير كافية، فهو يحتاج إلى برنامج متكامل متعدد الأبعاد، وهيكلية جديدة، وواقعية، وحامل نوعي من النخب التي تحمل قيم وأخلاق رجال الدولة الحقيقيين، وتمتلك الإمكانيات والمؤهلات والمبادرات والرغبة والقدرة على الإدارة.
مداخل أساسية
بالعودة إلى المقال، فقد أشار الباحث إلى أن حدود المشكلة الاقتصادية وامتداداتها السياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية، هي أبعد من ذلك، ويمكن مقاربتها من خلال مداخل أساسية في مستوياتٍ ثلاثة هي:
المستوى الأول: يتضمن ما يتعلق بالإطار النظري، المرجعي أو الفقهي لبرنامج الإصلاح في سورية. حيث يُلاحظُ في هذا المستوى أن نقطة الضعف الأساسية لفلسفة برنامج الإصلاح، تتمثل باختزال عملية الإصلاح في بعدها الإداري التقني/الفني (على أهمية ذلك)، بعيداً عن مضامين واستحقاقات إطارية وبنيوية أخرى متلازمة إجرائياً مع استحقاقات أخرى، سياسية وثقافية وتعليمية وتشريعية، ما يعني ضرورة إعادة النظر في الإطار النظري والفكري العام لبرنامج الإصلاح.
المستوى الثاني: يتعلّق بنوعية حامل مشروع الإصلاح في المستويات الإدارية والتنظيمية المختلفة، إذ يُعَدُّ حاملاً يكتنفه الغموضُ في جانبٍ كبيرٍ منه، ويدخلُ الفسادُ في تكوينه بصفته عنصراً جوهريّاً، كما يُعَدُّ ضعف المحتوى العلمي صفةً مميزة لبنيته المعرفيّة والثقافيّة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قسماً كبيراً من هذا الحامل، هو الأكثر تسلحاً بالشعارات والإشارات، والأكثر ترداداً للخطب الطنانة، والأكثر سبكاً للبرامج التعموية الرنانة، ما يعني ضرورة إعادة النظر في بنية الحامل وطرق الاختيار والتعيين.
المستوى الثالث: يتعلّق بطبيعة السياسات والإستراتيجيات التي تحدد الإطار العام لتوجه البلد سياسياً واقتصادياً وثقافياً؛ وفي هذا الإطار لابد من بلورة إستراتيجية عقلانية متوازنة ومتماسكة، تلبي طموحات المجتمع وغاياته في الحاضر وفي المستقبل، وتشكل رؤيةً متكاملةً لمواجهة الاستحقاقات التي تقتضيها المتغيرات الكبرى في الداخل والخارج.
سياسة الاستخفاف بالعقول
لفت الباحث إلى عقد النفقات والمصروفات، في الوقت الذي يغرق البلد في مستنقع العجز المالي، ويمضي الوقت، ليتم تفريغ مشروع الإصلاح من مضمونه السياساتي التنفيذي (العملاني) ومن ثم دفنه في مقبرة التنظير واللغط الإعلامي والسجال المفاهيمي، وكأن المشكلة الكبرى للمواطن السوري تكمن حاجته، لأن يعرف مفهوم الإصلاح ونظرياته، وكيف يُقاس الأداء وما هي مؤشرات القياس، ومعنى الكفاءة الإدارية، والتهرب الضريبي والفساد الإداري وأساليبه، أو أن يعرف معنى المفاهيم والمصطلحات باللغة الأجنبية، وكيف يبحث في القواميس بجدية ونشاط..!
منوهاً بأن ذلك يشكل سياسة ممنهجة للاستخفاف بالعقول، وتسفيه الواجب، والالتفاف على الاستحقاقات، وضياع الوقت. فالمواطن السوري أذكى وأفهم، ويعرف أكثر، لأنه يعيش الواقع، فهو يعرف الفساد وأساليبه، لأنه هو الذي يدفع للفاسدين، وهو الذي يشقى بنعيمهم وهو الذي يعرف أنه في أغلب الأحيان لا يستطيع أن يحصل على خدمة أو مساعدة، إلا إذا دفع، ويعرف معنى التهرب والانعكاس الضريبي وحجمه، لأن الدولة لا تستطيع بسبب ندرة الموارد والعجز المالي، أن تقوم بزيادة دخله، من أجل تحسين مستوى معيشته، ويعرف الشاب السوري أكثر أن قانون العمل الجديد رسالة له، كي يحزم الحقائب ويشدّ الرحال، إلى ديار اللـه الواسعة (هجرة، هروب، لجوء، لا فرق بالبر بالبحر بالجو لا فرق. المهم أن يرحل، أن يغادر، أن يخرج، إنها سياسة الإغراق في بحر اليأس والإحباط، وبالتالي التطفيش).
ونوّه بأن برنامج الإصلاح في سورية طُرح منذ أكثر من خمسة عشر عاماً من منظورٍ كليٍّ متعدد الأبعاد والمضامين، ولم يمض إلا وقت قصير حتى تراجع مستوى الخطاب المتعلق بالإصلاح تحت ضغط قوى الفساد وطغيانها، ليقتصر على البعد المتعلق بالإصلاح الاقتصادي، ثم اختُزلَ ليقتصر الحديث عن الإصلاح في بعده الإداري. وعليه، فقد اتجهت الرؤى طوال السنوات العشر الماضية، نحو تشخيص المشكلة الاقتصادية في سورية، وكأنها مشكلة إدارية وبيروقراطية بحتة، لا أكثر ولا أقل، ويبقى الأخطر هو ما جرى على مستوى الإصلاح الإداري الذي تم اغتياله، إذ حُشرَ عمداً في بوتقة عملية فنية وتقنية ضيقة، كما اختُزِلَ ببعض الأطر القانونية والجوانب التشريعية الصماء، وهذا ما حصل، إذ تم استصدار ما يزيد على ثلاثة آلاف تشريع، وتم استحداث -إضافة لما هو قائم- العديد من المؤسسات والبنى الإدارية (التعليمية والتدريبية)، كالمعهد الوطني للإدارة العامة، والمعهد العالي لإدارة الأعمال، وكليات وأقسام مختلفة لعلوم الإدارة في الجامعات السورية العامة والخاصة، إضافة إلى التوسع الكبير في عدد برامج التعليم المفتوح والمعاهد التدريبية، واللجان الخاصة بتبسيط الإجراءات الإدارية والبيروقراطية وغير ذلك.
ويبقى السؤال الأبرز والأهم (حسب الباحث): هل تمت عملية تقييم علمي ودراسة وافية وكافية، لما جرى على مستوى الإصلاح الإداري طوال الخمس عشرة سنة الماضية لنعرف إن كنا قد فشلنا أم نجحنا، ولنعرف بالتالي – مهما كانت النتائج- حدود النجاح والفشل؟ هل استطاعت المؤسسات والتشريعات أن تؤدي الغرض أو الهدف المطلوب منها؟ وما حدود ذلك؟ فإن كانت ناجحة، وتبيّن ذلك بلغة الأرقام والمؤشرات، فليُخصّص لها المزيد من الاعتمادات، وليُقدّم لها مختلف وسائل الدعم والمساندة، وإن كانت فاشلة فلتُحل، ولتُوفّر النفقات، لأن هناك أولويات وضرورات أخرى في وطن ينزف، تكالبت عليه قوى الشر في الداخل والخارج.