وصفة «مداد» الصادمة لإخراج الاقتصاد من المحنة الراهنة.. تغيير النقد السوري وبرنامج تحرير اقتصادي وخصخصة واسع النطاق


.


«يكاد يجمع معظم الخبراء الاقتصاديين والأكاديميين، على أنه لا يوجد في سورية سياسة نقدية واضحة المعالم والغايات، كما لا يُلاحظ وجود دور فاعل ومؤثر لمصرف سورية المركزي، ينسجم مع طبيعة المهام والأهداف التي تشكل الإطار العام لدور المصرف، والوظائف والغايات التي تأسس عليها ولأجلها، وأن جهد القائمين على إدارة الشؤون النقدية كان قد انصب طوال السنوات الماضية على هدف مركزي شبه وحيد، يتعلق بكيفية تثبيت سعر الصرف، وضبط إيقاع تحركاته، ضمن حدود معينة، مستهدفة من قبل الدولة السورية، وكأن سعر الصرف هو البداية والنهاية».

بهذه العبارات استهل الباحث الاقتصادي الدكتور مدين علي دراسته التي نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» مساء الأمس بعنوان «مِحَن الاقتصاد السوري: بين محدودية أداء الإدارة النقدية والمالية ومآزق التمويل البديل»، مطالباً بتدابير وإجراءات على المستويين الاقتصادي والسياساتي، أقل ما يقال عنها «جريئة»، علماً بأن البعض منها سبق أن طرح مع بدايات الحرب وأزمة الصرف، إلا أن الباحث ربط جميع التدابير بسلسلة واحدة وقدمها كخيار متكامل وجريء لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري، وذلك انطلاقاً من الحاجة الماسة لاستراتيجية اقتصادية كبرى، تنطلق من حزمة متكاملة من البرامج والسياسات النوعية، بما في ذلك السياسة النقدية، وذلك بغية تنفيذ خطة إنعاش استراتيجية، يمكن أن تساعد في تحقيق نقلة نوعية للاقتصاد السوري، نحو تأسيس قاعدة صلبة، تساعد في توطيد دعائم الانتقال السلس والعبور الآمن والسليم، إلى رحاب اقتصاد صلب ومتين، يمتلك مقومات الاستدامة في النمو والتنمية، ولديه القدرة على استيعاب مفاعيل الدمار والخراب للحرب الجائرة التي شُنّت على سورية وهضم تبعاتها.

ركود ونقود

رأى الباحث أن مشكلة الركود العميق الذي يعيشه الاقتصاد السوري، لا ترتبط كما نرى بأسباب الندرة على مستوى العرض النقدي، بمعنى أنها ليست نتيجة لنمو في حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعدل يتجاوز معدل النمو في حجم الكتلة النقدية، فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي السوري طوال سنوات (2010-2016) من (60.2) مليار دولار إلى (26.4) مليار دولار، أي إنه تراجع بمقدار (56.14 بالمئة) وذلك بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا، في الوقت الذي استمرت فيه الكتلة النقدية تنمو بصورة مستمرة ومتواصلة (بحسب بعض التقديرات) بمعدل يتراوح بين (19- 23 بالمئة) طوال السنوات (2012- 2016).

إلا أن استمرار التراجع في حجم العرض النقدي الحقيقي في عام 2017، والنصف الأول من عام 2018، يطرح بدوره الكثير من علامات الاستفهام الكبرى، حول وضع السوق، ومصير السيولة النقدية من قبيل: أين ذهبت السيولة وكيف؟ لماذا جفـّت السوق بهذه السرعة والحدة، رغم الاستقرار النسبي والهدوء، الذي تحقق في المستوى العام للأسعار (بل الانخفاض أحياناً)؟ ما الحكمة في ذلك؟ هل ازداد حجم الاحتياطي من القطع الأجنبي؟ من الذي اشترى؟ وممن اشترى؟ ومن الذي باع، ولمن؟ كيف يمكن استعادة تلك الأموال، لتدخل في دورة النشاط الاقتصادي من جديد؟ تساؤلات كبيرة ومهمة، والإجابات عنها تندرج في نطاق المهمة الكبرى، والمسؤولية التاريخية للإدارة النقدية والمالية، ومن ثم في صميم نشاطها ومهامها وعلى رأسها البنك المركزي؟

في إطار الرؤية البديلة لإخراج الاقتصاد السوري من المحنة الراهنة، سواء أكان ذلك من جهة ما يتعلق بتأمين الموارد المالية، وخلق مصادر التمويل، أم من جهة ما يتعلق بتمويل خطة إنعاش للاقتصاد السوري، تؤسس لاستقرار سياسي واقتصادي، يعتقد أنه يمكن العمل على مستوى مدخلين؛ اقتصادي تقني، وآخر سياساتي عام.

مدخل اقتصادي مصرفي

يعد هذا المدخل تفصيلي – بحسب الباحث-، ويندرج حصرياً في نطاق مهام واختصاص الإدارة النقدية، لكنه يتكامل بقوة مع عناصر المدخل العام، ويتضمن هذا المدخل مجموعة من التدابير والإجراءات النقدية العاجلة، التي يمكن أن تساعد في تصميم خطة إنعاش وإنقاذ حقيقية للاقتصاد السوري منها تغيير النقد السوري، وهي خطوة قد تبدو صادمة، وغير مقبولة للوهلة الأولى، ومُستهجنة من البعض، وندرك بأن هذا المقترح سيواجه هجوماً عنيفاً من قبل جهات متعددة أبرزها من يدخرون ويمسكون بكميات كبيرة من النقد السوري، لكننا في جميع الأحوال نعتقد بأنها خطوة نوعية، تساعد إلى حدّ كبير في إفراغ الأقبية والمستودعات من مئات المليارات من الليرات السورية، التي خرجت من سوق التداول لأسباب كثيرة، والتي ستترتب عليها تداعيات ومنعكسات خطيرة في لحظة ما، تتوقف على طريقة التوظيف، ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن تكاليف التغيير أقل بكثير من تكاليف عدم التغيير.

إضافة إلى إعداد خطة تمويل وسياسة إقراض مرتبطة بغايات محددة، تركز بصورة جوهرية على عملية تحفيز الإنتاج، الذي يغذي العرض الكلي، ما سيؤدي بدوره إلى تخفيض المستوى العام للأسعار، وبالتالي تقليل مدى الحاجة للنقد، تأسيساً على النظرية التي تقول إن العرض يخلق أو ينتج الطلب، وهذا يتطلب وجود خطة حكومية متكاملة، لتفكيك بنية الاحتكار المتحكم بالسوق السورية.

ومن التدابير أيضاً تنشيط حركة دوران النقد، وهذا يتطلب تنشيط عملية التبادل عن طريق تسهيل المبادلات، والحد من العقبات البيروقراطية، وضمان هامش ربح أو عائد، يحفز على الاستثمار والتوظيف، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.وهذه خطة يمكن أن تقلل من حجم العرض النقدي المطلوب لتنشيط الاقتصاد السوري.

إضافة إلى تخفيض سعر الفائدة على الودائع الادخارية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة العرض النقدي السائل وشبه السائل، مما سيسهم في تحريك عجلة الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد أحد أهم المكونات التحفيزية على مستوى الطلب الكلي، التي يمكن الرهان عليها لزيادة معدل دوران النقد هذا من جانب، كما يسهم في تخفيض تكلفة رأس المال، ما يحفز على الاستثمار من جانبٍ آخر.

ومن التدابير أيضاً التوجه نحو تنفيذ سياسة اقتصادية نقدية توسعية، لكن بخطوات وبجرعات تجريبية صغيرة، ونسب محدودة جداً، لأن السوق يمكن أن تنطوي على عناصر مفاجئة، غير مأخوذة بالحسبان، بسبب حالة الملابسات والغموض التي تحيط بمسألة انخفاض العرض النقدي. وهذه يمكن أن يساعد في تحريك الطلب الكلي، الذي سيكون له أثرٌ تحريضي لجهة ما يتعلق بتقصير الدورة النقدية، وبالتالي تنشيط الاقتصاد وتحفيز الإنتاج، وتعزيز ثقة الناس بالنظام المصرفي ونواياه الحقيقية، وذلك من خلال تعزيز مناخ الشفافية والوضوح والنزاهة، وتطهير الأجهزة المصرفية من العناصر الفاسدة وضعاف النفوس ونفوذ جماعات الضغط والمصالح.

مدخل مؤسساتي

أدرج الباحث هذا المدخل في نطاق إعادة الهيكلة الكلية للاقتصاد، وليس من اختصاص الإدارة النقدية ولا المالية، ويتضمن مجموعة من الإجراءات والتدابير النوعية، التي تضع إدارات مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها الإدارة النقدية والمالية في المسار الصحيح، وتساعد في الوقت ذاته أيضاً، على تأمين مصادر تمويل ترفد الخزينة العامة للدولة السورية بموارد مالية كبيرة، تساعد في تحفيز الاقتصاد السوري، وتنشيط الدورة الاقتصادية والانطلاق في عملية إعادة الإعمار والبناء.منها تنفيذ حملة نوعية (حقيقية) كبرى على أجهزة الفساد والفاسدين، ورجال المافيا الاقتصادية، وتفكيك بناها واستئصال جذورها، وذلك بواسطة خطة استراتيجية، تنطلق من رفع الغطاء، وكشف الحقائق، والوقائع المرتبطة بملفات الفساد الكبرى، في قطاعات النفط والغاز والتعليم والمالية والجمارك والاقتصاد ومختلف القطاعات، والإطاحة برموزها والشبكات المرتبطة بها، ومحاكمتهم بصورة علنية، ومصادرة أموالهم عن طريق وقائع جلسات علنية، تحت أضواء الكاميرات والفضائيات، بصورة يمكن أن تساعد في ترميم وتصليب جسر العلاقة المهتز بين المواطن والدولة، جراء الفوضى وغياب المحاسبة طوال سنوات الحرب وقبلها.

أما وقد استعادت الدولة سلطتها على معظم أراضي الجمهورية العربية السورية، فقد بات لزاماً على الدولة، التوجه بقوة نحو حسم الخيارات المتعلقة بهوية الدولة الاقتصادية، ما يعني ضرورة التوجه نحو تنفيذ حزمة إجراءات إصلاحية صادمة وقوية، تتجاوز حدود فكرة أن الإصلاح الإداري هو المدخل الصحيح لمكافحة الفساد، وهو المدخل للإصلاح الاقتصادي، وبالتالي المدخل لبناء سورية الحديثة.

إضافة إلى الإقرار بأن الإصلاح في سورية عملية مركبة، تقتضي من الناحية الموضوعية السير بمسارات متلازمة سياسية واقتصادية واجتماعية، تبدأ من إصلاح المرجعيات والأطر التي تضطلع بدور مركزي في صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة في مختلف مجالات الحياة.

ومن التدابير أيضاً التخلي عن بعض الخيارات التي راهنت عليها الدولة السورية سابقاً في إدارة الشأن العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والإقرار بأنها كانت عقيمة ووصلت إلى جدار مسدود، إضافة إلى إطلاق برنامج تحرير اقتصادي وخصخصة واسعة النطاق، في جميع القطاعات، يطال مختلف الشركات والمؤسسات التي لا يمكنها العمل بمعايير الحوكمة ونظم التشغيل والأداء العالمية، وهذا يتطلب تقييم جدواها الاقتصادية والمالية، ومن ثم تصنيفها ضمن ثلاث زمر هي: (يمكن أن تستمر لأنها ذات جدوى، لا يمكن أن تستمر من دون مساعدة ودعم تمويلي، لا يمكن أن تستمر لأنها خاسرة وخارج السياق)، وعليه يتم الإبقاء على المؤسسات والشركات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، التي لها جدوى اقتصادية ومالية فقط، يُستثنى من ذلك قطاعات التربية والتعليم العالي والصحة في سورية، لأن نشاط القطاعات المذكورة، يرتبط بحقوق تنموية إنسانية أساسية لشرائح ومكونات اجتماعية غير متمكنة من الناحية المالية والاقتصادية.

إضافة إلى إعادة النظر بواقع قطاع نظام الضمان والرعاية الاجتماعية والتأمين في سورية، وتحويله إلى قطاع حقيقي عن طريق حوكمته، وإخضاعه لمعايير الجودة والاعتمادية الدولية، وإخضاع مؤسسات القطاع الخاص والأنشطة التي يقوم بها، لمعايير الحوكمة العالمية، والتشدد في تطبيق القوانين والأنظمة المرعية التي تضبط إيقاع عمل مؤسسات وشركات وفعاليات القطاع الخاص، وإجراء إصلاح نوعي جريء للنظام الضريبي، يتناوله في العمق ويساعد في تغيير مضمونه من نظام جباية للأموال إلى نظام ضريبي توزيعي وتنموي، محكوم بغايات وأهداف الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التنموية، ومنح الصلاحيات الكافية لمجلس النقد والتسليف، والتأكيد على أهمية استقلالية المصرف المركزي، وامتلاكه الهامش والمرونة الكافية في تنفيذ السياسات التي تنسجم مع طبيعة المهام والأهداف، وتفكيك بنية الاحتكار، وخلق بيئة اقتصادية تنافسية حقيقية، تساعد في تحقيق الإنصاف، ومبدأ تكافؤ الفرص للجميع.
 

 

المصدر: الوطن