سيناريوهات جذب الودائع إلى المصارف السورية


.


تعددت الدراسات والأبحاث التي تناولت التقديرات لتكلفة إعادة إعمار سورية بعد أكثر من سبع سنوات على اندلاع الحرب، ولعل أحدث هذه الأرقام 400 مليار دولار لإعادة إعمار البنى التحتية.
وفي هذا الصدد نرى ضرورة إعطاء القطاع المصرفي دوراً في تمويل عملية إعادة الإعمار من خلال توفير التمويل اللازم للمشاريع الاستثمارية بمختلف أشكالها، ولكن السؤال المطروح: هل يمتلك القطاع المصرفي السيولة الكافية التي تخوله لأداء دور فاعل في تأمين التمويل اللازم؟

لدى تحليل للأرقام المتوافرة عن سيولة القطاع المصرفي السوري نجد أن حجم الأموال المتاحة للإقراض في المصارف السورية تتجاوز مبلغ 1500 مليار ليرة سورية وذلك بحسب بيانات المجموعة الإحصائية للعام 2016 والتي قدرت الودائع لدى المصارف العامة بنهاية العام 2016 بنحو 1380 مليار ليرة سورية، فيما بلغت ودائع المصارف الخاصة حوالي 795 مليار ليرة سورية بنهاية العام 2017، ومع اقتطاع نسبة السيولة المفروضة بموجب القرارات ذات الصلة (30% بكافة العملات) فإن المبلغ يتجاوز رقم 1500 مليار ليرة سورية (تعادل نحو 3.5 مليارات دولار تقريباً بناءً على سعر صرف 436 ليرة سورية) وهذا يتطابق مع التصريحات التي صدرت مؤخراً عن وزير المالية مأمون حمدان.
ولدى حساب نسبة هذه المساهمة من تكلفة إعادة الإعمار نجد أن القطاع المصرفي السوري قادر على تغطية 1% فقط من التكلفة الكلية لإعادة الإعمار وتنخفض هذه النسبة مع ارتفاع فاتورة إعادة الإعمار يوماً بعد يوم، وعليه، فإن مساهمة القطاع المصرفي ستكون محدودة جداً.
لذا فإن العمل على جذب الإيداعات للقطاع المصرفي بشقيها (الودائع بالليرة وبالعملات الأجنبية) يُعد حاجة ملحة في الفترة المقبلة لتوفير جزء مهم من احتياجات التمويل وذلك باتباع سياسة نقدية قادرة على استقطاب رؤوس الأموال السورية وغير السورية خاصةً مع الانفراجات الأمنية وإعادة بسط سلطة الدولة السورية على مساحات واسعة من الجغرافية السورية، وفي هذا الصدد، يُمكن أن يشكل رفع سعر الفائدة على الودائع بالقطع الأجنبي عاملاً جاذباً للإيداعات بالقطع الأجنبي مع افتراض توافر العوامل الأساسية الأخرى.

معدلات الفائدة في دول الجوار
من خلال نظرة سريعة على معدلات الفائدة على الودائع بالدولار الأميركي المعمول بها في دول الجوار يُمكن وضع تصور حول معدلات الفائدة الجاذبة للودائع بالدولار للقطاع المصرفي السوري.
في لبنان مثالاً، تبلغ معدلات الفائدة المدفوعة على الودائع لأجل وودائع الادخار بالدولار في المصارف اللبنانية ما يقارب 4.67 % وذلك بحسب آخر احصائية منشورة على موقع مصرف لبنان المركزي لشهر أيار 2018، وذلك تزامناً مع أحدث التقديرات حول حجم الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية والتي قدرتها العديد من المنظمات الدولية والعديد من المصادر الاقتصادية بأنها قد تصل لمبلغ 20 مليار دولار.
أما عن معدلات الفائدة على الودائع بالدولار في المصارف الأردنية فهي تتراوح بين 1.85 إلى 2.49 % بحسب آجل الوديعة، وفي هذا السياق تقدر حجم الأموال السورية في الأردن بنحو 140 مليون دولار حيث يتواجد هناك عدد مهم من المستثمرين الذين أنشؤوا مصانعهم الخاصة والتي تقدر بنحو 400 مصنع، الأمر الذي جعل أموال السوريين واستثماراتهم تشكل حوالي 15% من حجم الأموال الأجنبية المستثمرة في الأردن، وكذلك الحال في مصر والتي تقدر حجم الأموال السورية هناك بنحو 2 مليار دولار حيث بلغ تقدير عدد المستثمرين حوالي 100 مستثمر.
أما في تركيا فتراوحت معدلات الفائدة ما بين 2.31% إلى 3.28% وتقدر الأموال السورية في تركيا بما يفوق 350 مليون دولار حيث تجاوز عدد الورشات السورية هناك 15 ألف ورشة ما جعل الاستثمارات السورية تشكل 22% من الاستثمارات الأجنبية في تركيا.

خيار رفع سعر الفائدة
يمكن القول إن رفع سعر الفائدة في سورية على الودائع بالدولار إلى 6% كحد أدنى مثلاً (مع هامش حركة 0.5% بالزيادة والنقصان، بحسب حاجة كل مصرف للسيولة وإدارته لها وبناءً لتقديرات السلطة النقدية لكمية الإيداعات وحاجة الاقتصاد الوطني وتطور المؤشرات الاقتصادية) يمكن أن يساهم بفعالية في جذب الودائع والأموال داخل وخارج سورية، لا سيما أنه بهذه الحالة سيصبح السعر الأعلى بين دول الجوار، وإذا ترافق ذلك مع إصدار شهادات الإيداع المزمع طرحها بالليرة وبالدولار ستتمكن السياسة النقدية من استقطاب جزء مهم من الأموال السورية المهاجرة على ألا تقل نسبة الفائدة عليها أيضاً عن 6% حسب أجل الشهادة.
سيناريوهات جذب الودائع

نعتقد أن الأموال السورية في المصارف اللبنانية هي الأكثر طواعية للعودة إلى سورية نظراً لأنها مودعة دون استثمار حقيقي من قبل السوريين في لبنان كما في باقي الدول حيث لا يقوم السوريون هناك بأي نشاط انتاجي أو صناعي كما هو عليه الحال في الأردن ومصر وتركيا، مما يسّهل من إمكانية جذبها أكثر من غيرها على المدى المتوسط، وذلك بالتزامن مع الأقاويل والدراسات التي تتناول مستقبل الاقتصاد اللبناني الغامض والذي تكثر التصريحات عن إمكانية تعرضه لأزمة حقيقية آتية من شلل الحركة الاقتصادية فيه برمتها وارتفاع الدين العام لحوالي 151% من الناتج المحلي الإجمالي ونمو الاقتصاد اللبناني الضعيف في العام 2017 بنحو 2%.

في حال تمكن المصرف المركزي من تطبيق ما ذُكر آنفاً، سنفترض أكثر السيناريوهات تشاؤماً وهو جذب 15% من الأموال السورية في لبنان (20 مليار دولار) ما يعني عودة 3 مليارات دولار أي ما يعادل المتاح للإقراض في سورية حالياً، أما في حال أكثر السيناريوهات تفاؤلاً وهو جذب 40% من الأموال السورية فيعني ذلك عودة حوالي 8 مليارات دولار على المدى المتوسط.

الفائدة المرتفعة والإقراض
مع الضرورة السورية لجذب الودائع عبر منحها فوائد دائنة مرتفعة يجب على السلطة النقدية العمل على إعطاء المصارف هامش حرية في تحديد سعر الفائدة المدينة على التسهيلات الائتمانية، وأن تعمل على توجيه المصارف لإعطاء الأولوية لقطاعات محددة كالصناعات (النسيجية، مواد البناء، الغذائية، الدوائية، الخ)، وانطلاقاً من ذلك يتوجب أن يكون سعر الفائدة على هذه القروض غير مرتفع مقارنةً بالأنواع الأخرى من القروض التي تُعد أقل أهمية في المراحل الأولى من عملية إعادة الإعمار، حيث يتوجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن رفع معدلات الفائدة الدائنة لجذب الإيداعات يعني أن المصارف ستفرض معدلات فائدة مدينة أعلى على النشاط الإقراضي، وقد تكون نتيجة ذلك إما انخفاضاً في حجم القروض الممنوحة نتيجة إحجام المستثمرين عن الاقتراض بمعدلات فائدة مدينة عالية ما قد يعوق عملية الإقراض التي تشكل ضرورة أساسية في المرحلة المقبلة، وإما النتيجة الأخرى فهي ارتفاع تكلفة الاقتراض والذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج ما قد ينعكس مزيداً من الضغوط التضخمية التي سيتحملها المستهلك النهائي من خلال ارتفاع أسعار المنتجات النهائية.
كذلك لابد من النظر إلى المعوقات التي تواجه إعادة تفعيل النشاط الإقراضي، إذ إن هنالك معوقات مرتبطة بجانب العرض وأخرى بجانب الطلب في سوق الاقتراض (لن نأتي على ذكرها الآن)، كما أن معالجة ملف القروض المتعثرة يعتبر من أولويات العمل في هذه المرحلة.

تجارب دول
بلمحة سريعة على التجارب التاريخية لبعض الدول خلال فترة التعافي الاقتصادي بعد أزمات والحروب نجد أهمية الدور الذي تلعبه الحكومات في عملية جذب الودائع وتوجيهها نحو القطاعات الاقتصادية حسب أولويتها، فبعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا الغربية مارست الحكومات رقابة شديدة على الإقراض المصرفي لفترة طويلة وعملت على توجيهه ضمن القطاعات المطلوبة ذات الأولوية، وكذلك الأمر في اليابان التي ركزت على توجيه الائتمان للقطاعات ذات الأولوية من خلال مصرف إعادة الإعمار المملوك للحكومة اليابانية حيث كان هذا المصرف هو المسؤول عن ثلث الإقراض الموجه للصناعة، وكذلك تجربة كوريا الجنوبية.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول إنه لا يمكن الاعتماد على المصادر المحلية فقط لإعادة إعمار سورية بل يتطلب العمل على جذب ما أمكن من مصادر التمويل السورية الداخلية والخارجية تخفيفاً لعبء المديونية فالأموال السورية في الداخل والتي هي خارج القطاع المصرفي يتوجب العمل على جذبها عبر معدلات فائدة جاذبة أيضاً، وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه المصارف ألا وهو تحقيق الهدفين معاً: سعر فائدة دائن جاذب للإيداعات وسعر فائدة مدين غير مرهق للإقراض، أضف إلى ذلك أن العملية تتجاوز عملية تجميع الأموال الكافية إلى كيفية توجيهها نحو القطاعات ذات الأولوية حسب حاجة المرحلة الراهنة ومن ثم على مراحل زمنية أخرى بما يتلاءم مع مؤشرات الاقتصاد الكلي.
 

 

المصدر: الوطن