بوصلة “البحث العلمي” تتجه نحو القطاع المالي تصويب العلاقة بين الأجور والأسعار أولى خطوات تطبيق ما تحتبسه الأدراج
.
حطت الهيئة العليا للبحث العلمي رحالها في وزارة المالية أمس، في محاولة منها لتطويع القطاع المالي للسياسة الوطنية للبحث العلمي التي أقرتها مؤخراً، وذلك من خلال استنهاض ما بجعبة العاملين في هذا القطاع من جهة، والمهتمين به من باحثين وأكاديميين من جهة ثانية، إذ عقدت الهيئة وضمن سياق التطبيق الفعلي للسياسة الوطنية للبحث العلمي، الاجتماع العملي الأول لتفعيل المشاريع البحثية وتطوير القطاع المالي، لاختيار عناوين لأبحاث علمية كفيلة بتطوير القطاع المالي، ومناقشتها من قبل فرق عمل يتمكن عبرها الباحثون اختيار المناسب وحسب الاختصاص.
واشترط وزير المالية الدكتور مأمون حمدان تأمين التمويل الحكومي للبحث العلمي وتقديم الدعم اللازم له، بتحديد الاحتياج أولاً، والقطاعات التي يجب تطويرها مالياً ثانياً، مشيراً إلى الاهتمام الحكومي بمسألة البحث العلمي يأتي ضمن سياق ضرورة ربط مخرجات البحث العلمي باحتياجات الاقتصاد الوطني ولاسيما أن المرحلة الحالية وما تحتاج إليه من تكثيف الاهتمام بالبحث العلمي والأبحاث التطبيقية التي من شأنها تطوير الاقتصاد الوطني والمساهمة في مرحلة إعادة الإعمار، إلى جانب ضرورة الاستفادة من خبرات الباحثين ورسائل الماجستير والدراسات الموجودة في الكليات السورية لتطوير عمل كافة القطاعات.
لا عوائق
وبدا مدير عام الهيئة العليا للبحث العلمي الدكتور حسين صالح متفائلاً بالمرحلة المقبلة كونها مرحلة ستكون للتطبيق العملي والتنفيذ الفعلي، نافياً وجود معوقات أمام البحث العلمي على خلاف بعض الآراء التي رأت أنه ما زال يحتاج إلى الكثير من الدعم، واستعرض ورقة عمل بين فيها نظام الهيئة وأهدافها وآليات عملها إلى جانب المشاريع المقدمة للقطاع المالي والنقدي، وبين صالح أن الاجتماع يهدف لعرض المشاريع وانتقاء الباحثين للبدء بتنفيذها، مبيناً أن معظم هذه المشاريع قد وضعها أهل القطاع وسيتم تنفيذها من قبلهم وتخدم مرحلة إعادة الإعمار، كمشروع الأتمتة ودعم قطاع المالي والتجاري والنقدي به، والذي يحد من الهدر والفساد ويعمل على تسريع عملية التنفيذ، إلى جانب مشروع تعديل القوانين لتواكب مرحلة إعادة الإعمار، بالإضافة إلى تأكيده على ضرورة الاعتماد على المصادر والموارد الذاتية لخدمة الاقتصاد والابتعاد عن الاستيراد، ولم يكشف صالح عن قيمة الدعم المالي لموازنة مشاريع البحث العلمي، مكتفياً بإجابة مختصرة “أعتقد بأنه كافي”، واعداً بالكشف عنه في نهاية الشهر العاشر، أي بعد انعقاد الاجتماع الثاني المرتقب.
تصويب العلاقة
وتبدو المهمة الأولى للبحث العلمي من وجهة النظر الأكاديمية هي تصويب العلاقة بين الأجور والأسعار كونها من أهم أركان الاقتصاد بحسب الدكتور علي كنعان الذي عدّ أن الانطلاقة الأولى تبدأ من تصويب العلاقة بين طرفي المعادلة، وإيجاد صيغة اقتصادية توجد تناسب بين دخل المواطن واحتياجاته المعيشية وهي صيغة طبقتها معظم الدول الأوروبية وذلك عندما حددت وفق أبحاثها الحد الأدنى للمعيشة بـ800 دولار، وبناء عليها ألغت الأسس القديمة لاحتساب الرواتب، ووضعت نظاماً تناسبت فيه الدخول مع السلة الغذائية واحتياجات المعيشة، وبين كنعان أن العديد من الجهات المعنية منها هيئة التخطيط والتعاون الدولي ومرصد العمل لاتحاد العمال، قامت بدراسات للسلة الغذائية وقدرتها بـ245 ألف ليرة، وبالتالي يرى كنعان أن البداية تبدأ من تصحيح هذه العلاقة، ومن ثم الانطلاق إلى البحث العلمي الذي غدا مستحيلاً في ظل هذا الرواتب، إذ لا تتجاوز مكافأة البحث العلمي عتبة 15 ألف ليرة والتي لا تكفي الباحث نفقة المواصلات حتى يتفرغ لبحثه.
عدم تعاون
وتحفظ كنعان على الدعوة لاعتماد رسائل الماجستير التي تستنزف وقت وجهد الطالب والمشرف كأبحاث علمية، ولاسيما في ظل إشكالية عدم تعاون واستقبال دوائر الدولة لطلاب الدراسات إذ تعتذر هذه الدوائر في أكثر الحالات عن إعطاء أرقام أو إحصائيات لإغناء هذه الرسائل، الأمر الذي يدفع الطالب للاستعانة بمراجع أخرى لتقديم رسالته، إلى جانب تعنت هذه الجهات وعدم قبولها لهذه الدراسات ليكون مصيرها الأدراج في الجامعات، وبالتالي فإن البحث العلمي متعثر ويحتاج إلى جهة تقبله بحسب رأيه.
مقاومة التغيير
ولم يكن كنعان وحيداً في رؤيته، إذ وافقته الرأي عضو مجلس الشعب ومقرر لجنة الموازنة والحسابات عائدة عريج، التي رأت أن البحث العلمي لا يزال يعاني من عزلته بسبب طبيعة البيئة العامة سواء كانت مؤسساتية أم فردية، والتي تتصدى للتغير تتوجس منه بالرغم من الحاجة الماسة له، واستهجنت عريج أن يجد البحث العلمي طريقه في القطاعات العامة، في حين أن هذه المؤسسات هي أولى مقاومي التغيير وموظفوها يصرون على المركزية وعلى امتلاكهم لكل قرارات مفاصل عملهم، والكثير منهم لا يوافق على تفويض بعض الصلاحيات أو الأعمال لغيره، ويمسك بناصية كل القرارات الإدارية التي يجب أن تمر من خلاله ومن خلال منظوره الشخصي، متسائلة كيف سنترك مجالاً للإبداع والابتكار والبحث، منوهةً إلى صعوبة تطبيق البحث العلمي التطبيقي المرتبط بالجانب العملي في ظل وجود هذه العقلية، وبناءً عليه يجب البدء بعملية تنموية وسلسلة مترابطة الحلقات لتحرير المؤسسات من المركزية والشخصنة القاتلة، ومن ثم الانطلاق إلى إقامة البحث العلمي وتطبيقاته.
غياب أرقام
ولأهل الاختصاص تجربة في البحث العلمي، لكنهم حاولوا تقديم بعض المقترحات علها تعبد الطريق إلى تطبيقه بالشكل الأمثل، إذ بين المدير التجاري في المصرف التجاري السوري حيدر الأشقر، أنهم قاموا بتقديم أطروحة بحث بعنوان “إمكانات المصارف السورية لتمويل عملية إعادة الإعمار”، وقد تضمنت المبالغ المطلوبة وقيم السيولة لبداية مرحلة الإعمار وهي لمناطق صغيرة، وذلك للحيلولة دون اللجوء إلى مصادر التمويل الخارجية التي تحمل في طياتها حالة إذعان أو شروط سياسية، ولكن الفجوة الكبيرة بحسب الأشقر تكمن بغياب الأرقام الحقيقية، وقلة مراكز الدراسات والأبحاث في سورية، مؤكداً وجود عجز لجهة استقراء أية معلومة صحيحة، أو التنبؤ بالمستقبل بسبب عدم توفر الرقم، فالمصرف المركزي أو وزارات الدولة لا تفصح عن الأرقام الاقتصادية الحقيقية، داعياً إلى تفعيل المكتب المركزي للإحصاء، وتكوين مراكز أبحاث على غرار مركز مداد، إلى جانب ابتعاد الباحثين عن مراكز الأبحاث الخارجية كونها تقدم معلومات مسيسة، وبعيدة كل البعد عن الواقع الاقتصادي للبلد، كما شدد على ضرورة إجراء اللقاءات المباشرة بين أهل الاختصاص وأصحاب القرار لترى هذه الأبحاث النور، فمعظم الأبحاث المقدمة هي مجرد أرقام للاستئناس ولم يبنَ عليها أية قرارات.
وأشار الأشقر إلى أن تكاليف مرحلة إعادة الإعمار تقارب نحو 300 مليار دولار أمريكي، ولكن هذه القيمة مشروطة بانتهاء الحرب واستقرار سعر الصرف، بالإضافة إلى وضع استراتيجيات واضحة للبدء بمرحلة إعادة الإعمار، مقسمة إلى مراحل متتالية، تبدأ من إعادة النظر بالدخل باعتبار الدخل هو المولد للإنتاج، ثم الإنتاج للوصول إلى الاقتصاد الحقيقي غير الريعي ومنها الانطلاق إلى مرحلة إعادة الإعمار، وبذلك تكون التجربة السورية ناجحة على غرار التجارب العالمية.
المصدر: البعث