محاور «مداد» للتعافي الاقتصادي في سورية.. والمطلوب إعادة تعريف دور الدولة الاقتصادي ودور العام والخاص ومقاربة مختلفة للاستثمار …


.

سلّط مركز دمشق للأبحاث والدراسات الضوء على التعافي الاقتصادي في سورية بعد الحرب، إذ نشر أمس دراسة للدكتور مدين علي (أستاذ جامعي في كلية الاقتصاد) بعنوان «نحو إستراتيجية عمل للتعافي الاقتصادي في سورية: مدخل مقترح لبدء مرحلة إعادة البناء والنمو لما بعد الحرب».
استهل الباحث دراسته بالتأكيد أن عملية الإقلاع الاقتصادي والنهوض ليست عملية بسيطة وسهلة؛ ذلك بسبب أن حجم الموارد محدود، وبعضه مشروط، في الوقت الذي يبلغ فيه حجم الخسائر والاستحقاقات نسباً كبيرة، وسقوفاً عالية، ما يعني ضرورة تبني إستراتيجية اقتصادية وتمويلية رصينة، بعيدة عن الشعارات والمأمولات، تنطلق من الواقع والضرورات، وبأولويات عمل عقلانية، تستند إلى تقييم خبراء وتكنوقراط وطنيين، لديهم الفهم والدراية والجرأة العلمية، وتدرك بصورة كافية أن ما قبل الحرب ليس كما بعدها، وأن عملية إعادة إنتاج الماضي أو المنظومة يُعدُّ وهماً كبيراً، وأن الرهان على منهج وسياسات الأمس خطر، وينطوي على نتائج ومخرجات كارثية.
بناءً وعلى أساس التحليل والاستشراف لما انتهى إليه واقع البنية الاقتصادية السورية، والاستحقاقات المالية والتنموية الكبيرة بعد ثماني سنوات من الحرب والدمار والعقوبات الدولية على سورية، يرى الباحث أنه لا بد من الانطلاق كمدخل أولي للتعافي الاقتصادي والمالي من إستراتيجيات عمل تنطلق من أولويات لا ينفي تقديمها والدفع نحو العمل بها أهمية قطاعات وأنشطة أخرى، عرضها ضمن أربعة محاور تضم محور الأولويات والرهانات القطاعية في مرحلة التعافي، ومحور القطاع المالي والتمويل، والمحور الوظيفي وإعادة تعريف دور الدولة الاقتصادي ودور القطاعين العام والخاص، وأخيراً محور السياسات والإستراتيجيات التنموية.

أولويات ورهانات
بينت الدراسة أن التجارب التي خاضتها دول كثيرة عاشت حروباً داخلية وصراعات محلية؛ تفيد بأن مرحلة التعافي تحتاج إلى منظور مختلف لجهة ما يتعلق بترتيب الأولويات القطاعية، إذ إنه وفي ضوء محدودية الموارد الاقتصادية والمالية الحكومية وندرتها وارتفاع تكاليفها، يصبح غير عقلانيٍّ أو غير موضوعيٍّ توزيعها على جبهة واسعة من مجالات الاستثمار والتوظيف؛ ذلك لأن الهجوم بموارد قليلة على جبهة واسعة من الاستثمارات سيؤدي في ضوء انخفاض كتلة التوظيف بالمقارنة مع الحاجة، إلى ضعف كفاءة رأس المال، وبالتالي لن يكون لها أي أثر أو دور تنموي واضح النتائج والتأثير، ما يعني ضرورة التوجه نحو خيار توظيفي واستثماري بديل، ينطلق من ضرورة التركيز الحكومي على استثمار وتوظيف الموارد المتاحة (القليلة) في قطاعات وأنشطة ذات طابع أو مضمون إستراتيجي بالنسبة للدولة وللمجتمع، مع ضرورة توجه الدولة بقوة في الوقت ذاته نحو تحفيز القطاع الخاص لسد العجز الاستثماري والتمويلي للقطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى.
وفي هذا الإطار، رأى الباحث أنه يتعين على الدولة إعادة توجيه برامج واعتمادات الإنفاق والتمويل العام عبر الموازنة العامة للدولة نحو تطوير قطاع التربية والتعليم، وتطوير البنية التقنية والتكنولوجية للمؤسسات الحكومية التي باتت بمعظمها مهتلكة وتاريخية، وتطوير قطاع الصحة، وتطوير وتحفيز قطاع الزراعة والصناعات الزراعية.
أما بالنسبة لبقية القطاعات الاقتصادية (الصناعة والسياحة والتطوير التقني والتكنولوجي والنقل والتجارة الداخلية والخارجية وعمليات الاستيراد والتصدير)، فيُعَدُّ ضرورياً في مرحلة التعافي الاقتصادي أن تتجه الدولة بقوة نحو تحفيز القطاع الخاص المنظم والمحوكم، وفق الأصول والمعايير الدولية، للاستثمار بقوة في هذه القطاعات وسدّ فجوة العجز المالي والتمويلي الناجم عن محدودية موارد الدولة، على أن ينحصر دور الدولة في البقاء كمشرف مراقب وضامن لتنفيذ المعايير والنظم عن طريق القوانين والتشريعات.

التمويل
بينت الدراسة أن قطاع المال من القطاعات الأكثر أهمية في مرحلة التعافي الاقتصادي، إذ لا يمكن للدولة أن تبدأ عملية البناء، دون أن تتوافر لها مصادر التمويل والموارد المالية بصورة مطلوبة بالحدّ الأدنى لتمويل الإنفاق، وفي ضوء الندرة النسبية للموارد والشح الذي أصاب مصادر التمويل الطبيعية، أصبح من الضروري أن تتبنى الدولة إستراتيجية عمل مختلفة على مستوى قطاع المال والتمويل تنطلق من إعادة هيكلة القطاع المالي والتمويلي بصورة تساعد في تحفيز هذا القطاع وتقويته، وتحويله إلى رافعة حقيقية وذراع قوية للنهوض الاقتصادي والتعافي، وإعادة النظر في النظام المصرفيّ والقوانين التي تحكم سير العمل فيه، تحديداً المصارف العامة (لجهة ما يتعلق بالبنية التقنية والتكنولوجية ونظام الحوافز والرواتب والتعويضات)، وتحرير هذا القطاع من القوانين التقليدية التي تحكم بقية القطاعات الاقتصادية والخدمية، نظراً لخصوصية العمل في هذا القطاع، وحاجته الماسة للمواكبة الدائمة والمستمرة، والتكيف تنظيميّاً وتكنولوجيّاً وحوكميّاً مع المعايير الدولية.
كما تنطلق من إعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة، تحديداً لجهة ما يتعلق بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، في ضوء إعادة هيكلة واجبة ومطلوبة للاقتصاد والإدارة، تتطلب بدورها تغيراً في الدور المفترض للقطاعين العام والخاص ورهانات الدولة التنموية، وأولويات الإنفاق العام القطاعية، لجهة إعادة توزيع الاعتمادات المالية بصورة تستهدف قطاع التربية والتعليم والصحة والزراعة والصناعات الزراعية، وتحسين كفاءة مصادر الإيرادات الطبيعية من ضرائب ورسوم وعوائد أملاك الدولة، والتقليل من درجة ومستوى الاعتماد على مصادر التمويل الاستثنائية، سواء أكان ذلك عن طريق الإصدار النقديّ والاقتراض الداخليّ، أم الاعتماد على عمليات الاستدانة والاقتراض الخارجي.
بالإضافة إلى صياغة سياسة مالية ونقدية محكمة لجهة ما يتعلق بتوطيد دعائم الاستقرار النقدي والمالي، وضبط معدلات التضخم ضمن حدود استهدافية، واسترداد المال العام الذي بُدّد واستُبيح طوال سنوات الحرب وقبلها، وتخفيف الجهاز البيروقراطي للدولة؛ ذلك عن طريق إعادة هيكلة البنى والإدارات والقوى البشرية، بما في ذلك من عمليات دمج وتصفية تستهدف الحلقات البيروقراطية والهياكل الإدارية الوسيطة، التي ترهق الموازنة العامة للدولة، وتتسبب في استنزاف مقدراتها، في الوقت الذي لا تقدم أي خدمة حقيقية أو قيمة مُضافة.

دور العام والخاص
رأى الباحث أن مرحلة التعافي تتطلب حسم الخيارات وتجنّب التردد؛ ذلك عن طريق تبني إستراتيجية واضحة، لجهة ما يتعلق بتحديد وظائف الدولة ودور القطاع الخاص، وعليه، وفي ضوء واقع العسر المالي في سورية والحاجة الكبيرة للتمويل، وفي ضوء التحولات التي حصلت على مستوى العالم، بما في ذلك على مستوى الدول الحليفة والصديقة؛ لابد من عملية تقييم جريئة وموضوعية لجهة ما يتعلق بدور الدولة الاقتصادي في سورية، وضرورة انسحابها من متدخل ومنتج لبعض السلع والخدمات التي لم تعد مجدية، إلى مراقب قوي ضابطٍ لإيقاع الاقتصاد السوري، عن طريق تطبيق القانون المباشر والشفاف، وتعزيز بنى المؤسسات، وتطبيق أحكام الدستور، والتنسيق مع القطاع الخاص المنظم والمحوكم، مع ضرورة الحفاظ على مؤسسات القطاع العام الإستراتيجية التي تتطلب بصورة عاجلة إعادة هيكلة وحوكمة طبقاً لمعايير الحوكمة الاقتصادية العالمية.

الإستراتيجيات التنموية
ختاماً، بينت الدراسة أن مرحلة التعافي الاقتصاديّ في سورية تحتاج إلى تبني سياسات اقتصادية (نقدية ومالية) وتشريعية، تضمن الاستقرار المالي والنقديّ، وتحول دون السماح بارتفاع معدل التضخّم عن حدود استهدافية، تساعد في تنشيط الطلب الفعّال، وتسريع وتائر دورة أو حركة النقد، وكفاءة الاستثمار والتوظيف، كما تحتاج العمل بصورة مكثفة لتوفير شروط ومتطلبات الاستثمار الموضوعية، والتي لا تنحصر في حدود منح الإعفاءات الضريبية، أو تقديم التسهيلات التمويلية والائتمانية، وهي إجراءات وتدابير، كانت قد جُرّبت بمعظمها سابقاً، إن لم يكن بكليتها، والتي لم تكن ناجزة ولا مفيدة، ولم تحفز على الاستثمار، بل فوّتت الكثير من الفرص والموارد، وتسببت في ارتفاع معدل التضخم، جراء ارتفاع موجة المضاربات العقارية، ما يعني أن مسألة الاستثمار تتطلب مقاربةٍ مختلفة، تساعد في خلق فضاء عام، يزرع الإحساس بالاطمئنان والشعور بالثقة، كأهم مكون من مكونات رأس المال في الاقتصادات المعاصرة، في الوقت الذي يتعين فيه على الدولة أن تأخذ بالحسبان مسألة التوازن الإنمائي بين مختلف المناطق السورية والمحافظات، بصورة تساعد في الحدّ من مظاهر الاختلال وعدم التوازن التنموي، نظراً لما قد يترتب عليه من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، لا يمكن احتواء مفاعيلها.

 

المصدر: الوطن